فصل: تفسير الآيات (148- 152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (142- 143):

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}
{سَيَقُولُ السفهآء} الجهال.
{مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ} صرفهم وحوّلهم.
{عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} من بيت المقدس. نزلت في اليهود ومشركي العرب بمكّة ومنافقي المدينة طعنوا في تحويل القبلة وقال مشركوا مكّة: قد تردّد على محمّد أمره واشتاق إلى مولده ومولد آباءه قد توجّه نحو قبلتكم وهو راجع إلى دينكم عاجلاً.
قال الله {قُل للَّهِ المشرق والمغرب} ملكاً والخلق عبيدهُ يحولهم كيف شاء.
{يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} عدلاً خياراً. تقول العرب: إنزل وسط الوادي: أي تخيّر موضعاً فيه، ويُقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو وسط قريش نسباً أي خيرهم: قال الله تعالى و{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28]، أي أخيرهم وأعدلهم، وأصله هو أنّ خير الأشياء أوسطها. قال زهير:
هم وسط ترضى الأنام لحكمهم ** إذا نزلت احدى الليالي بمعظم

وقال الكلبي: يعني متوسطة أهل دين وسط بين الغلو والتقصير لأنّهما مذمومان في الدّين. قال ثعلب: يُقال: جلس وسط القوم ووسط الدّار، وكذلك فيما يُحتمل البينونة (واحتمل وسطاً له) بالفتح وكذلك فيما لا يحتمل البينونة.
نزلت هذه الآية في مرحب وربيع وأصحابهما من رؤساء اليهود قالوا لمعاذ بن جبل: ما ترك محمّد قبلتنا إلاّ حسدا، وإنّ قبلتنا قبلة الأنبياء، ولقد علم محمّد إنّا عدل بين النّاس. فقال معاذ: إنّا على حق وعدل. فأنزل الله {وَكَذَلِكَ} أي وهكذا، وقيل الكاف فيه للتشبيه تقديره: وكما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم كذلك جعلناكم أُمّة وسطاً. مردودة على قوله: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} [البقرة: 130] الآية.
{لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} يوم القيامة أنّ الرُّسل قد أبلغتهم.
{وَيَكُونَ الرسول} محمّد صلى الله عليه وسلم. {عَلَيْكُمْ شَهِيداً} معدلاً مزكيّاً لكم؛ وذلك إنّ الله تعالى جمع الأولين والآخرين في صعيد واحد يُسمعهم الدّاعي، وينقذهم البصر ثمّ يقول كفّار الأُمم. ألم يأتكم نذير فتشكرون، ويقولون: ما جاءنا من نذير.
فيُسأل الأنبياء عن ذلك فيقولون: قد كذّبوا، قد بلغناهم وأُعذرنا إليهم: فيسألهم البينّة، وهو أعلم بأقامة الحجة. فيُوتى بأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم. إنّهم قد بلغوا فتقول الأُمم الماضية: من أين علموا بذلك وبيننا وبينهم مدة مريدة؟
فيقولون: علمنا ذلك باخبار الله أيانا في كتابه الناطق على لسان رسوله الصادق. فيؤتى محمّد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أُمّته. فيزكّيهم ويشهد لصدقهم.
{وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ} يعني التحويل عن القبلة الّتي كنت عليها وهي بيت المقدس.
وقيل: معناه القبلة الّتي أنت عليها أي الكعبة كقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] أي أنتم.
{إِلاَّ لِنَعْلَمَ} لنرى ونميّز {مَن يَتَّبِعُ الرسول} في القبلة.
{مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} فيرتد ويرجع إلى قبلته الأولى هذا قول المفسرين وقال أهل المعاني: معناه إلاّ لعلمنا مَن يتبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه كأنّه سبق ذلك في علمه إنّ تحويل القبلة سبب هداية قوم وضلالة أخرين، وقد تضع العرب لفظ الاستقبال موضع المضي كقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ} [البقرة: 91] أي قتلتم.
وأنزل بعض أهل اللّغة: للعلم منزلتين: علماً بالشيء قبل وجوده وعلماً به بعد وجوده والحكم للعلم الموجود لأنّه يوجب الثواب والعقاب فمعنى قوله: {لِنَعْلَمَ} أي لنعلم العلم الّذي يستحقّ به العامل الثّواب والعقاب وهذا على معنى التقدير كرجل قال لصاحبه: النّار تحرق الحطب، وقال الآخر: لا، فردّ عليه. هات النّار والحطب، ليعلم إنّها تحرقه أي ليتقرر علم ذلك عندك.
وقوله: لنعلم تقديره ليتقرّر علمنا عندكم، وقيل معناه: ليعلم محمّد صلى الله عليه وسلم فأضاف علمه عليه السلام إلى نفسه سبحانه تخصيصاً وتفصيلاً كقوله: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله} [الأحزاب: 57] وقوله: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا} [الزخرف: 55] ونحوهما {وَإِن كَانَتْ} وقد كانت توليه القبلة وتحويلها فأنّث الفعل لتأنيث الإسم كقولهم: ذهبت بعض أصابعه وقيل: هذه الكناية راجعة إلى القبلة بعينها أراد وان كانت الكعبة.
{لَكَبِيرَةً} ثقيلة شديدة. {إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} أي هداهم الله وقال سيبويه: (وانّ) تأكيد منه باليمين ولذلك دخلت اللاّم في جوابها.
{وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وذلك إنّ حيى بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس أكانت هدىً أم ضلاله؟ فإن كانت هدىً فقد تحولتم عنها وان كانت ضلالة لقد دنتم الله بها فإن من مات منكم عليها لقد مات على الضلالة. قال المسلمون: إنّما الهدى ما أمر الله تعالى به والضلالة ما نهى الله عنه.
قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟ وكان مات قبل أن تحوّل القبلة؟ أسعد بن زرارة من بني النجّار والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ومات رجال آخرون. فانطلقت عشائرهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف إخواننا الّذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم إلى بيت المقدس.
{إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وفي رؤوف ثلاث قراءات: مهموز مثقّل وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص واختيار أبو حاتم قال: لأنّ أكثر أسماء الله على فعول وفعيل. قال الشاعر:
نطيع رسولنا ونطيع ربّاً ** هو الرّحمن كان بنا رؤوفا

وروف غير مهموز مثقّل قراءة أبي جعفر.
ورؤف مهموز مخفف وهي قراءة الباقين واختيار أبي عبيد.
قال جرير:
ترى للمسلمين عليك حقّاً ** كفعل الوالد الرؤف الرّحيم

فالرأفة أشدّ الرحمة.

.تفسير الآيات (144- 147):

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}
{قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} إنّ أوّل ما نسخ من أمور الشرّع أمر القبلة وذلك إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلّون بمكّة إلى الكعبة فلمّا هاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقدمها لليلتين خليا من شهر ربيع الأوّل أمره تعالى أن يصلّي نحو الصخرة ببيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إيّاه إذا صلّى إلى قبلتهم مع مايجدون من نعته في التوراة هذا قول عامّة المفسّرين.
وقال عبد الرحمن بن زيد: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء يهود يستقبلون بيتاً من بيوت الله، فلو (أنّا) استقبلناه «فاستقبله النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالوا جميعاً: فصلّى النبيّ وأصحابه نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً وكانت الأنصار قد صلّت إلى بيت المقدّس سنتين قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم».
وكانت الكعبة أحبّ القبلتين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في السبب الّذي كان صلى الله عليه وسلم يكره من أجله قبلة بيت المقدس ويهوى قبلة الكعبة.
فقال ابن عبّاس: لأنّها كانت قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
مجاهد: من أجل أنّ اليهود قالوا: يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا.
مقاتل بن حيّان: لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلّي نحو بيت المقدس قالت اليهود: زعّم محمّد أنّه نبي وما يراه أحد إلاّ في ديننا، أليس يصلّي إلى قبلتنا ويستنّ بسنّتنا فإن كانت هذه نبوّة فنحن أقدم وأوفر نصيباً فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فشقّ عليه وزاده شوقاً إلى الكعبة.
ابن زيد: لمّا استقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم بيت المقدس بلغه أنّ اليهود تقول: والله ما ندري محمّد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم.
قالوا جميعاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرئيل: «وددت أنّ الله صرفني من قبلة اليهود إلى غيرها فإنّي أبغضهم وأبغض توافقهم». فقال جبرئيل: إنما أنا عبد مثلك ليس إليَّ من الأمر شيئاً فاسأل ربّك؟ فعرج جبرئيل وجعل رسول الله يديم النظر إلى السّماء رجاءَ أنْ ينزل عليه جبرئيل بما يجيء من أمر القبلة. {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} تحوّل وتصرف وجهك يا محمّد في السّماء.
{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فلنحوّلنّك ولنصرفنّك.
{قِبْلَةً تَرْضَاهَا} تحبّها وترضاها.
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} أي نحوه وقصده.
قال الشاعر:
واطعن بالقوم شطر الملوك ** حتّى إذا خفق المخدج

أي: نحوهم وهو نصب على الظرف.
والمسجد الحرام: المحرّم كالكتاب بمعنى المكتوب والحساب بمعنى المحسوب.
{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ} في برَ أو بحر أو سهل أو جبل شرق أو غرب {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} فحوّل القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين.
مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة، وقد صلّى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب، وحوّل الرّجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين.
قال ابن عبّاس: البيت كلّه قبلة وقبلة البيت الباب والبيت قبلة أهل المسجد والمسجد قبلة أهل الحرم والحرم قبلة أهل الأرض كلّها فلمّا حوّلت القبلة إلى الكعبة قالت اليهود: يا محمّد ما أمرت بهذا- يعنون القبلة- وما هو إلاّ شيء تبتدعه من تلقاء نفسك.
قتادة: فصلّى إلى بيت المقدس وتارة يصلّي إلى الكعبة ولو ثبتّ على قبلتنا لكنّا نرجوا أن تكون صاحبنا الّذي ننتظره ورأيناكم تطوفون بالكعبة وهي حجارة مبنية فأنزل الله: {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق} يعني أمر الكعبة الحقّ. {مِن رَّبِّهِمْ} وإنّها قبلة إبراهيم ثمّ هددهم فقال: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأ ابو جعفر وابن[.....] والكسائي بالتاء وقال بريد: إنكم يا معشر[.......] تطلبون وصالي وما[.... ]عن ثوابكم وجوابكم. وقرأ الباقون... يعني ما الله بغافل عما يعمل اليهود فأجازيهم في الدنيا والاخرة {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب} يعني يهود المدينة، ونصارى نجران. قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم آتنا بآية كما أتى بها الأنبياء قبلك، فأنزل الله تعالى {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب}.
{بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} يعني الكعبة، وقال الأخفش، والزّجاج: أجيئت لئن بما لأنّها بمعنى لو، وقيل: إنّها أجيبت بما لما فيه من معنى اليمين كأنّه قال: والله لئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكل آية إلى {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}؛ لأن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنّصارى تستقبل المشرق.
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} مرادهم في أمر القبلة.
{مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} إنّها حقّ وإنّها قبلة إبراهيم.
{إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} الجاحدين الضارين أنفسهم.
{الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} يعني مؤمني أهل الكتاب عبدالله بن سلام وأصحابه.
{يَعْرِفُونَهُ} يعني محمّداً {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} من بين النصارى.
الكلبي عن الربيع عن ابن عبّاس قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله ابن سلام: لقد أُنزل الله على نبيّه {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} فكيف يا عبدالله هذه المعرفة؟
فقال عبد الله بن سلام: يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب، وأنا أشدّ معرفةً بمحمّد منّي لابني، فقال عمر: وكيف ذاك؟
فقال: أشهد إنّه رسول حقّ من الله، وقد نعته الله في كتابنا وما أدري ما تصنع النساء، فقال له عمر: وفقك الله يا بن سلام فقد صدقت وأصبت.
{وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق} يعني صفة محمّد صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة.
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ثمّ قال: {الحق} أي هذا الحقّ خبر ابتداء مضمر.
وقيل: رفع باضمار فعل أي جاءك الحقّ كما قال: {وَجَآءَكَ فِى هذه الْحَقُّ} وقرأ علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه {الحق مِن رَّبِّكَ} نصباً على الأغراء.
{فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} الشاكيّن مفتعل من المرية والخطاب في هذه الآية: وفي ما قبلها للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره وكلّ ما ورد عليك من هذا النحو فهو سبيله.

.تفسير الآيات (148- 152):

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} أي ولكلّ أهل ملّة قبلة.
{هُوَ مُوَلِّيهَا} مستقبلها ومقبل إليها يُقال: ولّيته، وولّيت إليه إذا أقبلت إليه وولّيت عنه إذا أدبرت عنه.
وأصل التولية: الإنصراف، وقرأ ابن عبّاس وابن عامر وأبو رجاء وسليمان بن عبدالملك: هو مولاها: أي مصروف إليها.
وفي حرف أُبي: ولكّ قبلة هو مولّيها، وفي حرف عبدالله: ولكلّ جعلنا قبلة هو موليها.
{فاستبقوا الخيرات} وبادروا فعل الخيرات، ومجازه فاستبقوا إلى الخيرات: أي يسبق بعضكم بعضاً؛ فحذف حرف الخبر. كقول الشاعر:
وهو الداعي (...) عليكم بالحرب ** ومن يمل سواكم فإني منه غير مائلِ

اراد من يمل إلى سواكم.
{أَيْنَ مَا تَكُونُواْ} يريد أهل الكتاب.
{يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً} يوم القيامة؛ فيجزيكم بأعمالكم.
{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} حيث حرف بدل على الموضع، وفيه ثلاث لغات: بالياء وحرف الثاء وهي لغة قريش، وقراءة العامّة، واختلفوا في وضع رفعها فقيل: هو مبني على الضم مثل: منذ وقط، وقيل: رفع على الغاية كقوله: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4].
وحيث: بالياء ونصب الثاء وهي قراءة عبيد بن عمير.
قال الكسائي: إنّما نُصب بسبب الياء لأنّها ساكنة وإذا اجتمع ساكنان في حرف حركوا الثاني إلى الفتح؛ لأنّه أخف الحركات مثل: ليت وكيف.
وحوثُ: بالواو والضم وهي لغة ابن عمر.
يروى إنّهُ سئل أين يضع المصلّى يده في الصلاة، فقال: ارم بهما حوثُ وقعتا.
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} إلى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} أيّها المؤمنون. {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} هي لام كي دخلت على أن فكتبت بالكسرة ما قبلها، وترك بعضهم همزها تخفيفاً، والحجة فعلة من الحج وهو الفصل، ومنه المحجة وهي الطريق الواضح المسلوك؛ لأنّه مقصود، ويُقال: للمخاصمة محاجة لقصد كلّ واحد من الخصمين إلى إقامة بينته، وإبطال ما في يد صاحبه.
واختلفوا في تأويل هذه الآية ووجه قوله: {إِلاَّ} فقال بعض أهل التأويل: ومعنى الآية حوّلت القبلة إلى الكعبة لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّة إذا صلّيتم إليها فيحتجّون عليكم ويقولون: لم تركتم التوجه إلى الكعبة وتوجهتم إلى غيرها لولا إنّه ليست لكم قبلة؟
{إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} وهم قريش واليهود وأمّا قريش فتقول إنّما رجع إلى الكعبة لأنّه علم أنّها قبلة آبائه وهي الحقّ وكذا يرجع إلى ديننا ويعلم أنّه الحقّ، وأمّا اليهود فإنّهم يقولون لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنّه حق إلاّ إنّه إنّما يفعل برأيه فيزعم إنّه أَمر به، وهذا القول اختيار المفضّل بن سلمة الضبي وهو قول صحيح مرضي.
وقال قوم: معنى الآية {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ} يعني لأهل الكتاب عليكم حجّة وكانت حجّتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صلاتهم نحو بيت المقدّس إنّهم كانوا يقولون: ما درى محمّد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم نحن، وقولهم: يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا فهذه الحُجّة التي كانوا يحتجوّن بها على المؤمنين على وجه الخصومة والتموية بها على الجّهال من المشركين ثمّ قال: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} وهم مشركوا مكّة وحجّتهم إنّهم قالوا: لمّا صرفت القبلة إلى الكعبة أنّ محمّداً قد تحيّر في دينه فتوجّه إلى قبلتنا وعلم إنّا أهدى سبيلاً منه وانّه لا يستغني عنّا ويوشك أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والربيع والسّدي واختيار محمد بن جرير.
وعلى هذين القولين إلاّ استثناء صحيح على وجه نحو قولك: ما سافر أحد من النّاس إلاّ أخوك فهو إثبات للأخ من السفر، وما هو منفي عن كلّ أحد من النّاس، وكذلك قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} من قريش نفي عن أن يكون لأحد حجة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بسبب تحولهم إلى الكعبة {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} من قريش فإن لهم قبلهم حجة لما ذكرنا.
ومعنى الحجة في هذين القولين: الخصومة والجدل، والدعوى بالباطل كقوله: {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]: أي لا خصومة، وقوله: {أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ} [البقرة: 139] وليحاجوكم وتحاجون وحاججتم كلّها بمعنى المجادلة والمخاصمة لا بمعنى الدليل والبرهان، وموضع الّذين خفض كأنه قال: إلاّ للذين ظلموا. فلما سقطت اللام حلّت (الّذين) محلها قاله الكسائي.
قال الفراء: موضعه نصب بالاستثناء، وإنّما (......) منهم ردّ إلى لفظ الناس؛ لأنّه عام، وإن كان كلّ واحد منهم غير الآخر والله أعلم، وقال بعضهم: هو استثناء منقطع من الكلام الأول ومعناه إلاّ يكون للنّاس كلّهم عليكم حجة اللّهمّ إلاّ الّذين ظلموا فإنّهم يحاجونكم في الباطل ويجادلونكم بالظلم، وهذا كما يقول للرجل: النّاس كلّهم لك سامرون إلاّ الظالم لك: يعني لا (......) ذلك بتركه حمدك لعداوته لك، وكقولك للرجل: مالك عندي حق إلاّ أن تظلم، ومالك حجة إلاّ الباطل، والباطل لا يكون حجّة، وهذا استثناء من غير الحسن. كقول القائل: ليس في الدّار أحد إلاّ الوحش. كقول النابغة:
وما بالرّبع من أحد إلاّ وأرى لأياماً ** أمنّها وننوي كالحوض بالمظلومة الجلد

وهذا قول الفراء والمؤرخ.
وقال أبو روق: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} يعني اليهود عليكم حجة؛ وذلك إنّهم كانوا قد عرفوا إنّ الكعبة قبلة إبراهيم وقد كانوا وجدوا في التوراة أنّ محمّداً سيحوّل إليها. فحوّلهُ الله إليها لئلا يكون لهم حجة فيحتجون. بأن هذا النبيّ الّذي نجده في كتابنا سيحوّل إليها ولم تحوّل أنت فلمّا حوّل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذهبت حجّتهم ثمّ قال: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} منهم يعني إلاّ أن يظلموكم فيكتموا ما عرفوا.
وقال الأخفش: معناه لكفى الّذي ظلموا مالهم به من علم إلاّ إتّباع الظن يعني: لكن يتبعون الظّن، قوله: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى * إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} [الليل: 19-20] يعني لكن تبتغى وجه ربّك فيكون منفرداً من الكلام الأوّل.
وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة إنّه قال: ليس موضع إلاّ هاهنا موضع الاستثناء لأنّه لا يكون للظالم حجّة إنّما هو في موضع واو العطف كأنّه قال: ولا الّذين ظلموا يعني والّذين ظلموا لا يكون لهم أيضاً حجّة.
وأنشد المفضل:
ما بالمدينة دار غير واحدة ** دار الخليفة إلاّ دار مروانا

وأنشد أيضاً:
وكلّ أخ مفارقة أخوه ** لعمر أبيك إلاّ الفرقدان

يعني والفرقدان أيضاً متفرقان.
وأنشد الأخفش:
وارى لها داراً بأغدرة السي ** دان لم يدرس لها رسم

إلاّ رماداً هامداً دفعت ** عنه الرياح خوالد سحم

أي: وأرى داراً ورماداً، يؤيّد هذا القول ما روى أبو بكر بن مجاهد عن بعضهم إنّه قرأ بعضهم: (إلى الّذين ظلموا) مخفّفا يعني مع الّذين ظلموا.
ومعنى الآية: لئلاً يكون للنّاس، يعني اليهود عليكم حجّة في أمر الكعبة حيث لا يستقبلونها وهي قبلة إبراهيم فيقولون لكم تزعمون إنّكم على دين إبراهيم ولم تستقبلوا قبلته ولا للذين ظلموا وهم مشركوا مكّة لأنّهم قالوا: إنّ الكعبة قبلة جدّنا إبراهيم فما بال محمّد تحوّل عنها فلا يصلّي إليها ويصلّي إلى قبلة اليهود.
وقال قطرب: معناها إلاّ على الّذين ظلموا فيكون ردّه على الكاف والميم أي إلاّ على الّذين ظلموا فإنّ عليهم الحجّة فحذف حرف الجر وهذا إختيار أبي منصور الأزهري.
قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحبيبي يحكيها عنه وحكى محمّد بن جرير عن بعضهم إنّه قال: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} هاهنا ناس من العرب كانوا يهوداً ونصارى وكانوا يحتجّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمّا سائر العرب فلم يكن لهم حجّة وكانت حجّة من إحتجّ أيضاً داحضة باطلة لأنّك تقول لمن تريد أن تكسر حُجّته عليه: أنّ لك عليّ حجّة ولكن منكسرة إنك لتحتجّ بلا حجّة وحجّتك ضعيفة، فمعنى الآية: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} من أهل الكتاب فإنّ لهم عليكم حجّة واهية.
{فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرهم عليكم في المحاجة والمجاوبة فانّي وليّكم أظهركم عليهم بالحجّة والنصرة.
{واخشوني} في تركها ومخالفتها.
{وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} عليكم عطف على قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ولكن أتمّ نعمتي بهدايتي ايّاكم إلى قبلة إبراهيم فتتمّ لكم الملّة الحنيفيّة وقال علي كرّم الله وجهه: تمام النعمة: الموت على الإسلام، وروي عنه أيضاً إنّه قال: النّعم ستة: الإسلام والقرآن ومحمّد والستر والعافية والغنى ممّا في أيدي النّاس.
{وَلَعَلَّكُمْ} في لعلّ ست لغات: علّ ولعلّ ولعنّ وعنّ ولعّا.
ولها ستة أوجه هي من الله عزّ وجلّ واجب، ومن النّاس على معاني قد تكون بمعنى الاستفهام كقول القائل: لعلّك فعلت ذلك مستفهماً.
وتكون بمعنى الظّن كقول القائل: قدم فلان فردّ عليه الرّاد: لعلّ ذلك.
بمعنى أظنّ وأرى ذلك.
وتكون بمعنى الإيجاب بمنزلة ما أخلقه كقوله: قد وجبت الصّلاة فيرد الرّاد: لعلّ ذلك أي ما أخلقه.
وأنشد الفرّاء:
لعلّ المنايا مرّة ستعود ** وآخر عهد الزائرين جديد

وتكون بمعنى الترجّي والتمنّي كقولك: لعلّ الله أن يرزقني مالاً، ولعلّني أحجّ.
وأنشد الفرّاء:
لعلّي في هدى أفي وجودي ** وتقطيعي التنوقة واختيالي

سيوشك أن يتيح إلى كريم ** ينالك بالذّرى قبل السؤال

ويكون بمعنى عسى تكون ما يراد ولا يكون كقوله: {ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب} [غافر: 36]. أي عسى أبلغ.
وقال أبو داود:
فأبلوني بليتكم لعلّي ** أُصالحكم واستدرج نويا

أي نواي ويكون بمعنى كي على الجزاء كقوله: {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] بمعنى لكي يفقهوا ونظائرها كثيرة وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا من الضّلالة. قال الربيع: خاصم يهودي أبا العالية فقال: إنّ موسى كان يصلّي إلى صخرة بيت المقدس، فقال أبو العالية: كان يصلّي عند الصخرة إلى البيت الحرام فقال لي: بيني وبينك مسجد صالح فإنه نحته من الجبل فقال أبو العالية: قد صلّيت فيه وقبلته إلى البيت الحرام.
قال: فأخبر أبو العالية إنّه مرّ على مسجد ذي القرنين وقبلته الكعبة.
{كَمَآ أَرْسَلْنَا} هنا الكاف للتشبيه ويحتاج إلى شيء يرجع إليه واختلفوا فيه فقال بعضهم: هو راجع إلى ما قبلها والكاف من ما قبلها تقديره: فلا تخشوهم واخشوني ولأتمّ نعمتي كما أرسلت فيكم رسولاً فيكون إرسال الرّسول شرطاً للخشية مزدّياً باتمام النّعمة.
وقيل: معناه ولعلّكم تهتدون كما أرسلنا.
وقال محمّد بن جرير: إنّ إبراهيم دعا بدعوتين فقال: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] فهذه الدعوة الأولى.
والثانية قوله: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 129] فبعث الله الرسول وهو محمّد صلى الله عليه وسلم ووعد في هذه الآية أن يجيب الدّعوة الثانية أن يجعل من ذرّيته أمّة مسلمة لك فمعنى الآية: ولأتِم نعمتي عليكم: ببيان شرائع ملّتكم الحنيفية وأهديكم لدين خليلي إبراهيم.
{كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ} يعني فكما أجبت دعوته بانبعاث الرّسول كذلك أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وهذا على قول من يجعله متصلاً بما قبلها وجواباً للآية الأولى وهو إختيار الفرّاء.
وقال بعضهم: إنّها متعلّقة بما بعدها وهو قوله: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} تقديرها: كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم فاذكروني اذكركم فيكون جزأً له جوابان مقدّم ومؤخّر كما تقول: إذا جاءك فلان فآته ترضه. فقوله: فآته وترضه جوابان لقوله إذا جاءك وكقولك: إنّ تأتني أحسن إليك أكرمك وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل والأخفش وابن كيسان واختيار الزجّاج، وهذه الآية خطاب للعرب وأهل مكّة يعني: كما أرسلنا فيكم يا معشر العرب رسولاً منكم محمّد صلى الله عليه وسلم {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} يعني القرآن.
{وَيُزَكِّيكُمْ} أي يعلّمون من الأحكام وشرائع الإسلام.
{فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} قال ابن عبّاس: أذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي بيانه قوله: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا} [العنكبوت: 69] الآية.
سعيد بن جبير: {فاذكروني} بطاعتي أذكركم بمغفرتي بيانه {وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].
فضيل بن عيّاض: فاذكروني بطاعتي أذكركم بثوابي بيانه {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الكهف: 30-31] وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أطاع الله فقد ذكر الله وإنّ قلّت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن».
وقيل: اذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالجنّات والدرجات بيانه: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ * جَنَّاتٍ} [البقرة: 25].
وقال ابو بكر الصدّيق رضي الله عنه: كفى بالتوحيد عبادة وكفى بالجنّة ثواباً.
ابن كيسان: اذكروني بالشكر أذكركم بالزّيادة: بيانه قوله: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
وقيل: اذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها.
قال الأصفي: رأيت أعرابياً واقفاً يوم عرفة بالموقف وهو يقول: ضجّت إليك الأصوات بضروب اللّغات يسئلونك الحاجات وحاجتي إليك أن تذكرني عند البلى إذا نسيني أهل الدّنيا.
وقيل: أذكروني بالطّاعات أذكركم بالمعافاة ودليله {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97].
وقيل: أُذكروني في الخلاء والملاء أذكركم في الجلاء والملأ بيانه ما روي في بعض الكتب إنّ الله قال: أنا عند من عبدني، فليظن بي ما شاء، وأنا معه إذا ذكرني، فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في الملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقربّ إليّ شبراً تقرّبت له ذراعاً، ومن تقرّب إليّ ذراعاً، تقرّبت إليه باعاً ومن أتاني مشياً أتيته هرولة، ومن أتاني بقراب الأرض فضّة أتيته بمثلها مغفرة بعد أن لا يُشرك بي شيئاً.
وقيل: أُذكروني في النّعمة والرّخاء أذكركم في الشّدة والبلاء بيانه قوله: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143-144].
قال سلمان الفارسي: إنّ العبد إذا كان له دُعاء في السّر؛ فإذا انزل به البلاء قالت الملائكة: عبدك نزل به البلاء فيشفعون له فينجيه الله، فإذا لم يكن له دُعاء قالوا: الآن فلا تشفعون له. بيانه لفظة فرعون {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91].
وقيل: أُذكروني بالتسليم والتفويض أذكركم بأصلح الأختبار. بيانه {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
وقيل: أُذكروني بالشوق والمحبّة أذكركم بالوصل والقربة.
وقيل: أُذكروني بالحمد والثناء أذكركم بالجزاء، وقيل: أُذكروني بالأوبة أذكركم بغفران الحوبة، وقيل: أُذكروني بالدُّعاء أذكركم بالعطاء، أُذكروني بالسؤال أذكركم بالنوّال، أُذكروني بلا غفلة أذكركم بلا مهلة، أُذكروني بالندّم أذكركم بالكرم، أُذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة، أُذكروني بالإرادة أذكركم بالأفادة، أُذكروني بالتنصّل أذكركم بالتفضل أُذكروني الإخلاص أذكركم بالخلاص، أُذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الكروب، أُذكروني بلا نسيان أذكركم بالأمان، أُذكروني بالأفتقار أذكركم بالاقتدار، أُذكروني بالأعدام والاستغفار أذكركم بالرّحمة والإغتفار، أُذكروني بالأيمان أذكركم بالجنان، أُذكروني بالأسلام أذكركم بالأكرام، أُذكروني بالقلب أذكركم برفع التعجب، أُذكروني ذكراً فانياً أذكركم ذكراً باقياً، أُذكروني بالإبتهال أذكركم بالأفضال، أُذكروني بالظل أذكركم بعفو الزلل، أُذكروني بالأعتراف أذكركم بمحو الاقتراف، أُذكروني بصفاء السّر أذكركم بخالص البّر، أُذكروني بالصّدق أذكركم بالرّفق، أُذكروني بالصفَو أذكركم بالعفو، أُذكروني بالتعظيم أذكركم بالتكريم، أُذكروني بالتكبير أذكركم بالتطهير، أُذكروني بالتمجيد أذكركم بالمزيد، أُذكروني بالمناجاة أذكركم بالنجاة، أُذكروني بترك الجفاء اذكركم بحفظ الوفاء، أُذكروني بترك الخطأ أذكركم بحفظ الوفاء، أُذكروني بالجهد بالخلقة أذكركم بأتمام النعمة، أُذكروني من حيث أنتم أذكركم من حيث أنا ولذكر الله أكبر.
الربيع في هذه الآية: إنّ الله ذاكر من ذكره، وزائداً من شكره، ومعذّبُ من كفره.
وقال السّدي: فيها ليس من عبد يذكر الله إلاّ ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلاّ ذكره بالرّحمة، ولا يذكره كافر إلاّ يذكره بعذاب. وقال سفيان بن عيينة: بلغنا إنّ الله عزّ وجلّ قال: أعطيت عبادي مالوا أعطيته جبرئيل وميكائيل كنت قد اجزلت لهما قلت: أُذكروني أذكركم، وقلت لموسى: قل للظلمة لا يذكروني فإني أذكر من ذكرني، فإنّ ذكري إياهم أن إلعنهم.
وقال أبو عثمان النهدي: إنّي لأعلم حين يذكرني ربّي عزّ وجلّ، قيل: كيف ذلك؟
قال: إنّ الله عزّ وجلّ قال: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} وإذا ذكرت الله تعالى ذكرني.
{واشكروا لِي} نعمتي.
{وَلاَ تَكْفُرُونِ}.